أ.د.م. محمود عوض كتب مقالا بعنوان "التطبيقات النانوية لمعادن الرمال السوداء"


مصدر تكوين رواسب الرمال السوداء
عبر ملايين السنين وحتى اكتمال بناء السد العالى يعتبر فيضان نهر النيل بقوة سريانه الهيدروليكية الهائلة هو العامل الرئيسى لنقل رواسب المعادن الثقيلة الإقتصادية المتركزة فى الرمال الشاطئية لساحل البحر المتوسط الممتدة من مدينة رفح شرقاً مروراً بالعريش و بورسعيد و بحيرة المنزلة و دمياط وجمصه وبلطيم و رشيد وحتى أبو قير غرباً ، حيث كانت تُنقل هذه الحمولات الضخمة بآلاف الأطنان سنوياً فى صورة فتات معدنى رملى وغرينى عالق فى تيارات النهر من بداية رحلته من المنبع جنوباً ، فمنشأ هذه المعادن الثقيلة متمثلاً فى الوحدات الصخرية النارية والمتحولة (طور التشتت المعدنى) فى الهضبة الإستوائية بوسط إفريقيا والهضبة الإثيوبية ثم تتفكك المكونات المعدنية لهذه الصخور الأم بفعل عوامل التجوية والتعرية المستمرة مع سقوط الأمطار ، وحتى نهاية الرحلة عند المصب شمالاً ومروراً بالروافد النيلية القديمة (المندثرة) والحالية (فرعى دمياط ورشيد) حيث نقطة انعدام طاقة النهر بسبب إلتقائه بأمواج شاطىء البحر المتوسط فى الإتجاه المعاكس ، فى ظروف ترسيبية طبيعية ملائمة لتراكم (طور التركيز المعدنى) هذه الرواسب المعدنية ذات القيمة الإقتصادية والاستراتيجية العالية فى الرمال السوداء الشاطئية والكثبان الرملية الساحلية.

القوة الهيدروليكية لفيضان النيل العامل الرئيسئ لنقل رواسب المعادن الثقيلة المفتتة من صخور المنبع في إثيوبيا ووسط إفريقيا حتي النهاية عند شاطيء البحر المتوسط.
وبما أن تراكم وتوزيع هذا النوع من الرواسب المعدنية مرتبط أساساً بعملية النقل والترسيب النهرى ، بالتالى فإن المنطقة الساحلية الممتدة بين دمياط ورشيد مروراً ببلطيم (بطول يصل إلى حوالى 80 كيلومتر و اتساع يصل إلى حوالى 5 كيلومتر ومتوسط 800 متر) تعتبر من أهم المواقع تمثل أعلى تركيزات من المحتوى الكلى للمعادن الثقيلة فى الرمال السوداء والتى تتراوح بين 5% و 35% بمتوسط حوالى 17% وفقاً للدراسات والبحوث التقييمية ، وذلك نظراً لبقاء رافدى دمياط و رشيد النيلية الحالية دون غيرهما ، و يتراوح متوسط عمق الرمال السوداء الحاوية لهذه التركيزات المعدنية الإقتصادية فى تلك المناطق تقريبياً إلى 9 متر ، كما يصل متوسط إرتفاع الكثبان الرملية إلى حوالى 15 متر ، بينما تقل نسب هذه التركيزات المعدنية فى الرمال الشاطئية كلما اتجهنا إلى مناطق ساحليه أخرى شرق دمياط أو غرب رشيد ، كما تجدر الإشارة أيضاً إلى وجود بعض المواقع والتواجدات الهامة على ساحل البحر الأحمر فى المنطقة الممتدة من مَرْسَى عَلَمْ وحتى حَلايب وشَلاتين جنوباً والتى تحتوى رمالها الشاطئية على تركيزات عالية من المعادن الثقيلة الإقتصادية حيث نقلتها السيول عبر ملايين السنين أيضاً من أعالى جبال البحر الأحمر خلال الوديان فى اتجاه الساحل شرقاً ، و أهم هذه المواقع هى راس بغدادى (مصب وادى الجمال) و راس بناس و سهل وادى دعيط و مَرْسَى شلال ومَرْسَى الكاد بالقرب من منطقة أبو رماد.

بعض روافد النيل القديمة وتراكمات رواسب الرمال السوداء على ساحل البحر المتوسط عند جبهة دلتا النيل
المكونات المعدنية للرمال السوداء
وسُميت هذه الرواسب المعدنية بالرمال السوداء نظراً لإحتوائها على نسب عالية من معدن الماجنيتيت وهو أحد المعادن الثقيلة الإقتصادية ذو اللون الأسود ، وسُميت بالمعادن الثقيلة نظراً لأن كثافة الركاز المعدنى الكلى (المحتوى الغامق) فى هذه الرمال تزيد عن 2.8 جرام/سم3 ، بينما تصل كثافة الرمال الخالية من تلك المعادن الثقيلة (المحتوى الفاتح) إلى حوالى 1.63 جرام/سم3 ، وقد أثبتت العديد من الدراسات المعدنية والجيوكيميائية التى أجراها علماء مصر من أساتذة الجامعات والهيئات والمراكز البحثية منذ منتصف القرن العشرين حتى اليوم احتواء رواسب الرمال السوداء المصرية بصفة أساسية على بعض المعادن الإقتصادية والاستراتيجية الهامه وهى المونازَيِتْ والزِرْكُونْ والرُوتَيِلْ والماجْنِيتَيِتْ والإِلِميِنَيِتْ والجَارْنِتْ فى صورة حبيبات رملية ناعمة جداً وغرينية تتراوح أحجامها غالباً من 63 إلى 250 ميكرون ، ويتراوح احتياطيات هذه المعادن الإقتصادية بناءاً على الوفرة النسبية لكل منها فى الرمال حيث يصل المونازيت إلى مئات الآلاف من الأطنان بينما يصل إحتياطيات باقى هذه المعادن إلى ملايين الأطنان.

رواسب الرمال السوداء الشاطئية

حبيبات رمال المعادن الثقيلة الإقتصادية تحت الميكروسكوب (أقل من 250 ميكرون)
ويتم تركيز وفصل هذه المعادن من الرمال الشاطئية والكثبان الرملية بسهوله (حيث تتواجد معاً فى صورة مخلوط ميكانيكى) على حسب تفاوت خواصها الفيزيائية بواسطة طرق ميكانيكية و هيدروليكية و مغناطيسية وكهروستاتيكية و تثاقلية غير مكلفة إقتصادياً و التى يمكن أن تعتمد فى تشغيلها على مصادر مستديمه من الطاقة البديلة مثل طاقة الأمواج (المد و الجذر) و طاقة الرياح و الطاقة الشمسية.

عملية تركيز المعادن الثقيلة من الرمال السوداء الشاطئية للحصول على الركاز المعدني في الموقع

عمليات فصل المعادن الإقتصادية الثقيلة من الركاز المعدني في المصانع
القيمة الإقتصادية من الإستخدامات الصناعية
لهذه المعادن الثقيلة أهمية صناعية وقيمة إقتصادية كبيرة ، حيث يحتوى معدن المونازَيِتْ (وهو أحد معادن مجموعة الفوسفات) على أكاسيد عناصر الثوريوم و اليورانيوم المشعة والعناصر الأرضية النادرة ، والذى يتواجد فى الرمال السوداء المصرية بإحتياطى قد يصل إلى مليون طن ، و يصل سعر الطن على حسب درجة الجودة إلى أكثر من 10 آلاف دولار ، كما يمكن معالجته واستخلاص منه ما يزيد عن 20 ألف طن من أكسيد الثوريوم وحوالى 5 آلاف طن من أكسيد اليورانيوم وما يزيد عن 200 الف طن من أكاسيد العناصر الأرضية النادرة مما يضاعف القيمة الإقتصادية للمونازيت إلى آلاف المرات ، حيث تُستخدم هذه العناصر الأرضية النادرة فى الصناعات الإلكترونية المتقدمة وتكنولوجيا الموصلات الفائقة ، وكذلك يمكن أن يساهم هذا المورد من المونازيت فى تقليل فاتورة استيراد المواد النووية لتشغيل مفاعل الضبعة النووى المصرى وما يترتب عليها من إنتاج الطاقة الكهربية ، وكذلك إتاحة إجراء التجارب والتطبيقات الإشعاعية الطبية والصناعية والزراعية وغيرها.

ترتيب أهم المعادن الثقيلة حسب السعر التقريبي عالمياً
أما باقى المعادن الثقيلة الإقتصادية (الزركون و الروتيل و الإلمينيت و الجارنت و الماجنيتيت) فبناءاً على الجودة والمواصفات والمعايير الصناعية المتنوعة للخام قد يصل سعر طن الزركون إلى أكثر من 5000 دولار ، كما يبلغ إحتياطى الزركون فى الرمال السوداء المصرية إلى حوالى 5 مليون طن ، ويستخدم الزركون (غير المشع) كمادة خام أساسية (وهو عباره عن سليكات الزركونيوم) فى صناعات الزجاج والسيراميك والبورسلين ومواد الأسنان الطبيه وغيرها ، أما معادن التيتانيوم (الروتيل و الإلمينيت) فتُستخدم بشكل أساسى فى صناعة البويات وأحبار الطباعة كمواد متحكمة فى خواص التعتيم وكذلك فى صناعة سبائك التيتانيوم المستخدمة فى صناعة هياكل الطائرات وسفن الفضاء والمحركات وتبطين الأفران واللحام وأيضاً يمكن رفع جودتها للإستخدام كمواد حيوية فى المستحضرات الصيدلانية والتجميل و مواد الأسنان والعظام ، ويصل سعر الطن من أكسيد التيتانيوم إلى ما يزيد عن 7000 دولار حسب الجودة والمواصفات التكنولوجيه والاستخدام الصناعى ، ويصل إحتياطى الإلمينيت (وهو عبارة عن أكسيد الحديد مع التيتانيوم) المقدر إلى حوالى 80 مليون طن وإحتياطى الروتيل (وهو عبارة عن أكسيد التيتانيوم) إلى حوالى 2 مليون طن ، أما معدن الجارنِت فيعتبر من المواد الخام الأساسية فى صناعة مواد أقراص القطع والتلميع والتجليخ والصنفرة وكذلك المواد المستخدمة لنفس الأغراض بضغط المياه وأيضاً كمادة خام أساسية فى صناعة مواد فلاتر المياه ، وقد يصل سعر طن الجارنت إلى أكثر من 1000 دولار ، ويصل إحتياطيه فى الرمال السوداء المصرية إلى حوالى 10 مليون طن ، و يُستخدم معدن الماجنيتيت كمادة خام فى إنتاج سبائك الحديد والصلب ، حيث يصل سعر الطن منه إلى حوالى 300 دولار ، و يصل إحتياطيه فى الرمال السوداء المصرية إلى حوالى 2.5 مليون طن.
وفى منطقة بلطيم – البرلس بصفة خاصة تصل كمية الرمال السوداء الشاطئية وفقاً للدراسات والبحوث المنشورة إلى حوالى 306 مليون طن (180 مليون متر مكعب تشغل مساحة 12 كم2 بعمق 15 متر) و يصل متوسط نسبة ركاز المعادن الثقيلة فى هذه الرمال إلى حوالى 4.6 % (وتتضمن نسب تركيزات المعادن الإقتصادية حوالى 1.3% إلمينيت و 0.8% ماجنيتيت و 0.5% جارنت و 0.7% زركون و 0.3 % روتيل و 0.01% مونازيت و بالإضافة إلى نسبة المعادن السليكاتية الخضراء الثقيلة 0.9%) ، بينما فى الكثبان الرملية الساحلية تصل كمية الرمال إلى حوالى 197 مليون طن (114 مليون متر مكعب تشغل مساحة 12 كم2 بعمق 15 متر) ، ويصل متوسط نسبة ركاز المعادن الثقيلة إلى 6.25% (وتتضمن نسب تركيزات المعادن الإقتصادية حوالى 4% إلمينيت و 0.17% ماجنيتيت و 0.46% جارنت و 0.4% زركون و 0.13 % روتيل و 0.012% مونازيت و نسبة المعادن السليكاتية الخضراء الثقيلة 1.08%).

النسب المئوية للمعادن الثقيلة الإقتصادية في الركاز
وبناءاً على ذلك تزداد القيمة الإقتصادية لكل طن من الرمال السوداء من خلال تطبيق وتطوير عمليات التركيز والفصل والمعالجة لرفع رتبة وجودة كل خام معدنى ثقيل مفصول يتم إنتاجه على حده من هذه الرواسب الإقتصادية الضخمة ، وهذا ما تقوم به الشركة المصرية للرمال السوداء بمنطقة الشهابية بلطيم وفقاً للإرادة السياسية المصرية في توطين واستدامة الصناعة المصرية بتوجيهات فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي ، ولا شك فى أن الإستغلال الأمثل لهذه الموارد المعدنية يهدف إلى توطين لجميع الصناعات المحلية القائمة على المعادن الثقيلة ومن ثم توفير العملة الصعبة بتقليل فاتورة استيراد المواد الخام المعدنية فى الصناعة والمواد المعدنية المشعة (الطاقة النووية) لإنتاج الطاقة الكهربية ، وكذلك زيادة فرص العمل فى كافة القطاعات الصناعية القائمة على هذه المعادن ، مما يسهم ذلك فى حل العديد من المشكلات الإقتصادية والإنتاجية والبطالة وفقاً لإستراتيجية و رؤية مصر 2030.
التطبيقات النانوية للمعادن الثقيلة : رؤية بحثية جديدة
في معمل بحوث المعادن التطبيقية بكلية العلوم جامعة الأزهر بالقاهرة نسعى للعمل على مضاعفة القيمة الإقتصادية أكثر من خلال المشاريع البحثية التى تهدف إلى ابتكار وإنتاج العديد من المواد التكنولوجية النانوية المتقدمة القائمة على هذه المعادن الثقيلة وتطبيقاتها ، حيث تخضع المواد النانوية القائمة علي المعادن الثقيلة مثل الروتيل والزركون والجارنت والمونازيت والماجنيتيت لمجموعة متنوعة من التطبيقات المبتكرة.

في مجال الأدوية، تُجرى البحوث الابتكارية لتطوير جسيمات نانوية قادرة على توصيل الأدوية مباشرة إلى الخلايا المصابة، مما يزيد من فعالية العلاج ويقلل من الآثار الجانبية. في البيئة، كذلك تُستخدم هذه الجسيمات في تنقية المياه وتحلية المياه المالحة، مما يساعد في توفير مياه شرب نقية بأسعار معقولة. وفي الصناعة، تُحسن هذه المواد النانوية من خصائص المواد التقليدية، مثل زيادة صلابة وقوة البوليمرات وغيرها من المواد، مما يجعلها بدائل خفيفة الوزن للسبائك الفلزية الثقيلة. تُجرى البحوث التطبيقية لتطوير مواد نانوية ذات خصائص فريدة، مثل المواد ذاتية الإصلاح والمواد الممتصة للطاقة، والتي يمكن استخدامها في مجموعة واسعة من التطبيقات الصناعية. في الإلكترونيات، يمكن أن ُتستخدم هذه المواد في إبتكار مكونات إلكترونية أصغر وأسرع وأكثر كفاءة، مثل الترانزستورات النانوية والشرائح الإلكترونية المتقدمة ومواد إنتاج الهيدروجين الأخضر. تُجرى البحوث لتطوير مواد نانوية جديدة يمكنها تحسين أداء الأجهزة الإلكترونية وتقليل استهلاك الطاقة. وفي الزراعة، تُحسن الجسيمات النانوية القائمة على هذه المعادن من كفاءة الأسمدة والمبيدات الحشرية، مما يزيد من إنتاجية المحاصيل ويقلل من التأثير البيئي السلبي. تُجرى البحوث لتطوير مواد نانوية يمكنها تحسين جودة التربة وزيادة مقاومة النباتات للأمراض والآفات. هذه البحوث الابتكارية التطبيقية تسهم في دفع عجلة التطور في مختلف المجالات، مما يفتح آفاقًا جديدة لاستخدام المعادن النانوية الثقيلة في تطبيقات مبتكرة ومتقدمة.
أ.د.م. محمود السيد عوض
أستاذ المعادن التطبيقية المساعد - قسم الجيولوجيا كلية العلوم - جامعة الأزهر