أ.د. ثروت حلمي كتب مقالا بعنوان "نافذة على أعماق الأرض وأسرارها (ما تخبئه لنا البراكين)"
تعد البراكين من أكثر الظواهر الطبيعية إثارة ورعبًا في نفس الوقت. فهي تجسد قوة هائلة من الطاقة الكامنة تحت قشرة الأرض، وتقدم لنا نافذة فريدة لرؤية ما يحدث في أعماق كوكبنا. على الرغم من تدميرها للمناطق المحيطة بها أحيانًا، فإن للبراكين دورًا حيويًا في تشكيل تضاريس الأرض وفي تقديم معلومات قيمة للعلماء عن العمليات الجيولوجية الداخلية. البراكين ليست مجرد فوهات تخرج منها الحمم، بل هي أنظمة معقدة توفر لنا معلومات ثمينة عن تاريخ الأرض وبنيتها الداخلية.
البراكين تخبئ في داخلها العديد من الأسرار العلمية، بدءًا من تكوين القشرة الأرضية وحتى تأثيرها على المناخ العالمي. عندما تثور البراكين، تطلق الحمم والصخور المنصهرة والغازات من أعماق الأرض إلى السطح. هذا يوفر لنا فرصة لدراسة المواد التي لا يمكن الوصول إليها عادة، مما يساعد العلماء في فهم تكوين الأرض وطبيعة المواد الموجودة في باطنها. على سبيل المثال، الحمم البركانية والصخور المنصهرة تحتوي على معادن وعناصر كيميائية تقدم معلومات عن الظروف الجيولوجية في أعماق الأرض.

البراكين تلعب دورًا مهمًا في إعادة تشكيل سطح الأرض. عبر التاريخ الجيولوجي، ساهمت البراكين في تشكيل الجبال والجزر وحتى القارات. إحدى أشهر الأمثلة على ذلك هي جزر هاواي، التي تشكلت نتيجة لنشاط بركاني مستمر على مدى ملايين السنين. كما أن ثورات البراكين القديمة قد ساهمت في تكوين بعض من أغنى الأراضي الزراعية في العالم، حيث تتكون التربة البركانية من مواد غنية بالمعادن والمغذيات التي تعزز نمو النباتات.
في الدول العربية، توجد العديد من البراكين النشطة والخامدة التي تشكل جزءاً من الطبيعة الجيولوجية للمنطقة. في المملكة العربية السعودية، يُعتبر بركان حرة رهاط واحداً من أكبر وأشهر البراكين. يقع في منطقة الحجاز ويمتد على مساحة واسعة تصل إلى حوالي 20,000 كيلومتر مربع. ثورانه الأخير كان في عام 1256 ميلادية، وهو معروف بتدفقاته البازلتية الهائلة. أيضاً، يوجد بركان جبل الملساء الذي يبرز بتضاريسه البركانية وتشكيلاته الصخرية الفريدة.
في مصر، البراكين ليست منتشرة بنفس القدر كما في بعض الدول الأخرى، ولكن هناك مناطق تحمل دلالات على نشاط بركاني قديم. مثال على ذلك هو جبل القلزم في جنوب سيناء، والذي يعتبر من البراكين الخامدة التي كانت نشطة في العصور الجيولوجية القديمة. هذا الجبل يحتوي على تشكيلات صخرية بركانية تعكس التاريخ الجيولوجي للمنطقة وتقدم أدلة على النشاط البركاني الذي حدث في الماضي.
التأثير المناخي للبراكين يمكن أن يكون هائلاً. عند ثوران البراكين، يمكن أن تطلق كميات هائلة من الرماد والغازات مثل ثاني أكسيد الكبريت في الغلاف الجوي. هذه المواد يمكن أن تؤدي إلى تبريد عالمي مؤقت من خلال حجب أشعة الشمس. مثال شهير على ذلك هو ثوران بركان تامبورا في إندونيسيا عام 1815، الذي أدى إلى "السنة بدون صيف" في 1816، حيث انخفضت درجات الحرارة العالمية وتسببت في فشل المحاصيل ومجاعة في أجزاء مختلفة من العالم.

بالإضافة إلى تأثيراتها الجيولوجية والمناخية، توفر البراكين موارد طبيعية قيمة. الحمم البركانية تحتوي على معادن ثمينة مثل النحاس والذهب والفضة، والتي يمكن استخراجها واستخدامها في صناعات مختلفة. في مناطق مثل آيسلندا، يتم استخدام الحرارة الجوفية الناتجة عن النشاط البركاني لتوليد الكهرباء وتدفئة المنازل، مما يوفر مصدر طاقة نظيف ومتجدد.
البراكين أيضاً تقدم فرصًا سياحية وتعليمية هائلة. السياحة البركانية تجذب ملايين الزوار سنويًا إلى أماكن مثل هاواي وآيسلندا وإيطاليا، حيث يمكن للناس مشاهدة النشاط البركاني عن قرب واستكشاف التضاريس الفريدة التي شكلتها البراكين. هذه المواقع السياحية تساهم في الاقتصاد المحلي وتوفر فرص عمل للسكان المحليين. بالإضافة إلى ذلك، تتيح البراكين للعلماء فرصة لدراسة الظواهر الجيولوجية في بيئات طبيعية، مما يزيد من فهمنا للعمليات الجيولوجية المعقدة التي تشكل كوكبنا.
على المستوى العالمي، يعتبر بركان ماونا لوا في هاواي أكبر بركان نشط على سطح الأرض، حيث يرتفع حوالي 4,169 مترًا فوق سطح البحر ويمتد عبر قاع المحيط إلى ارتفاع إجمالي يتجاوز 9,144 مترًا. هذا البركان شهد العديد من الثورات العنيفة التي شكلت تضاريس جزيرة هاواي.

البراكين تقدم لنا نظرة فريدة على أعماق الأرض وأسرارها. من خلال دراسة البراكين، يمكننا فهم المزيد عن تكوين الأرض وتاريخها الجيولوجي وتأثيرها على المناخ والبيئة. على الرغم من المخاطر التي تمثلها، فإن البراكين تظل جزءاً لا يتجزأ من نظام الأرض الطبيعي وتساهم بطرق عديدة في تطور كوكبنا وحياتنا عليه. سواء كنا ندرس الحمم المنصهرة أو نستفيد من الموارد الطبيعية التي توفرها، تظل البراكين مصدرًا لا ينضب للمعرفة والإلهام.
أ.د. ثروت حلمي
أستاذ الاستكشاف الجيوفيزيائي - قسم الجيولوجيا كلية العلوم - جامعة الأزهر
