أ.د. ثروت حلمي كتب مقالا بعنوان "كنوز مدفونة في قلب الصحراء ومفتاح كشف الأسرار المدفونة (الواحات البحرية)"
في قلب الصحراء الغربية المصرية، حيث تمتد الرمال إلى ما لا نهاية، تنبض الواحات البحرية بالحياة، وتحمل في طياتها أسرارًا تاريخية تروي حكايات حضارات غابرة. هذه الواحة، التي قد تبدو للوهلة الأولى مجرد ملاذ هادئ وسط الصحراء، تخفي تحت أرضها كنوزًا أثرية لا تقدر بثمن، تعود إلى عصور فرعونية ورومانية وقبطية، جعلت منها نقطة جذب لا تقاوم لعشاق التاريخ والمغامرة.
تقنيات الجيوفيزياء: مفتاح كشف الأسرار المدفونة
وراء كل اكتشاف أثري مذهل في واحات البحرية، تقف التقنيات الجيوفيزيائية كمفتاح لكشف أسرار الماضي. من التصوير الراداري الأرضي الذي يتيح للعلماء رؤية ما تحت الأرض دون لمسها، إلى المسح المغناطيسي الذي يكشف عن الآثار المدفونة بدقة مذهلة، تساهم هذه الأدوات في الحفاظ على المواقع الأثرية وتجنب أي ضرر محتمل.
تعتبر التقنيات الجيوفيزيائية أدوات حيوية في مجال التنقيب عن الآثار المصرية، إذ تتيح للباحثين كشف الكنوز التاريخية المدفونة في باطن الأرض بطرق غير مدمرة. من بين هذه التقنيات، يُبرز الرادار المخترق للأرض (GPR) كأداة ثورية بفضل قدرته على تقديم صور ثلاثية الأبعاد للطبقات الأرضية، مما يسهم في تحديد مواقع المقابر والمعابد القديمة دون الحاجة إلى الحفر العميق. كما تلعب القياسات المغناطيسية دورًا مهمًا في كشف التغيرات في المجال المغناطيسي للأرض، والتي قد تشير إلى وجود هياكل أثرية مدفونة. أما قياسات المقاومة الكهربائية، فتُستخدم لتحديد التباين بين المواد العضوية والمعادن المختلفة، مما يساعد في الكشف عن التركيبات الدفينة التي يصعب تمييزها بطرق أخرى. علاوة على ذلك، تسهم تقنية الجاذبية في كشف التغيرات الطفيفة في الجاذبية الأرضية المرتبطة بالهياكل المدفونة، مما يوفر رؤى حول البنية الجيولوجية للموقع الأثري. من جهة أخرى، يوفر التصوير بالأقمار الصناعية معلومات واسعة عن المواقع الأثرية من خلال تحليل التباينات في الصور الملتقطة من الفضاء، مما يعزز القدرة على استكشاف المناطق النائية واكتشاف الأنماط الجغرافية التي قد تدل على وجود آثار تاريخية. تُعزز هذه التقنيات من دقة وفعالية عمليات الكشف عن الآثار وتساهم في الحفاظ على التراث المصري الغني، من خلال تقليل الأضرار التي قد تنجم عن أساليب الحفر التقليدية.
وادي المومياوات الذهبية: رحلة إلى عالم ما وراء الطبيعة
عندما يتحدث الناس عن وادي الملوك أو أهرامات الجيزة، يتبادر إلى الأذهان فورًا صورة مصر القديمة بعظمتها وفخامتها. ولكن هناك كنز أثري آخر في قلب الصحراء الغربية، حيث تقف واحات البحرية شامخة، تخفي تحت رمالها واديًا من الذهب، لا يقل سحرًا عن تلك المعالم الشهيرة. إنه وادي المومياوات الذهبية، الذي يعد من أعظم الاكتشافات الأثرية في مصر الحديثة، وربما في العالم بأسره.
تخيل أنك تسير في وادي يعج بأصوات الرياح الخافتة، وفجأة تجد نفسك أمام مئات المومياوات المغطاة بالذهب، تشع بريقًا مذهلاً تحت أشعة الشمس الصحراوية. هذا هو وادي المومياوات الذهبية، الذي اكتُشف في التسعينيات، وأصبح حديث العالم بفضل الكنوز الفريدة التي يحتويها. كل مومياء تحكي قصة، وكل قطعة ذهب تروي حكاية، تشهد على فنون التحنيط الرومانية التي اندمجت بسحر مصر القديمة.
في صيف عام 1996، كانت الرمال الصفراء في واحات البحرية تشهد على حدث سيغير مسار علم الآثار. فريق من الباحثين بقيادة عالم الآثار المصري د. زاهي حواس عثروا على ما بدا في البداية كمقبرة عادية، ولكن مع كل ضربة فأس، كانت تظهر مفاجأة جديدة. تحت الرمال، كانت تنتظرهم مومياوات مرصعة بالذهب، محتفظة بجمالها وسحرها الذي يضاهي الأساطير. لقد كانت تلك اللحظة لحظة ميلاد وادي المومياوات الذهبية.
وادي المومياوات الذهبية ليس مجرد موقع أثري، بل هو كنز من التاريخ، يروي حكايات عن مصر القديمة وروما، عن الفخامة والروحانية، عن الحياة والموت. إنه شهادة على عظمة الإنسان وقدرته على الإبداع حتى في مواجهة الموت. وفي قلب الصحراء الغربية، حيث تعانق الرمال السماء، يقف هذا الوادي شاهدًا على حضارة لن تنسى أبدًا.
ما يجعل هذا الوادي مميزًا ليس فقط العدد الهائل للمومياوات التي تم اكتشافها، والتي يُقدر بأنها تتجاوز المئات، بل الطريقة التي تم تحنيطها وتزيينها. في العصر الروماني، كان التحنيط قد بلغ ذروته، ولكن ما يميز مومياوات وادي المومياوات الذهبية هو تلك الأقنعة الذهبية التي تغطي وجوهها، والعقود الثمينة، وأساور الذهب التي تلف أجسادها، مما يعطيها مظهرًا من الفخامة والهيبة التي تليق بملوك وأمراء.
كل مومياء في هذا الوادي تحكي قصة. هناك مومياوات تحمل رموزًا دينية تشير إلى معتقدات المصريين القدماء، وأخرى تحمل زخارف رومانية تجسد التداخل الثقافي بين مصر وروما. الألوان الزاهية التي لا تزال تشع من اللوحات التي تغطي بعض المومياوات تشهد على مهارة الفنانين والحرفيين الذين كرسوا حياتهم لصنع هذه الأعمال الخالدة.
اليوم، زيارة وادي المومياوات الذهبية ليست مجرد جولة سياحية؛ إنها رحلة إلى أعماق التاريخ. مع كل خطوة تخطوها بين هذه المومياوات، تشعر وكأنك تعود بالزمن إلى آلاف السنين، حيث كان يتم تحنيط الأجساد بكل دقة وعناية لتخلد في حياتها الآخرة. الشعور بالغموض والرهبة يسيطر على المكان، وكأن الأرواح التي كانت تسكن هذه الأجساد لا تزال تراقب زائريها من وراء الأقنعة الذهبية.
المقابر الفرعونية: بوابة إلى العالم الآخر
داخل أعماق الأرض، تتوارى المقابر الفرعونية التي تعود إلى الأسرة السادسة والعشرين، مثل بوابة سحرية إلى عالم آخر. الجدران المزخرفة برسومات ملونة والنصوص الهيروغليفية التي تزين هذه المقابر تروي قصصًا عن حياة وموت الفراعنة الذين عاشوا قبل آلاف السنين. إنها لوحات فنية محفوظة بعناية، تعكس قوة الإيمان وأهمية الطقوس الجنائزية في حضارة مصر القديمة.
الكنائس القبطية: رموز السلام والإيمان في الصحراء
في زوايا الواحة، يمكنك العثور على بقايا الكنائس القبطية التي شهدت على قوة الإيمان وسط صعوبات الحياة في الصحراء. هذه الكنائس، بعمارتها البسيطة وأيقوناتها المذهلة، تقدم لمحة عن مجتمع قبطي مزدهر كان يجد في الصحراء ملاذًا روحيًا. إنها أماكن هادئة تتناغم مع صمت الصحراء، وتبث في النفس شعورًا بالسلام والسكينة.

المومياوات الذهبية

المومياوات الذهبية

مقبرة باننتيو

الكنائس القبطية

مصليات عين المفتلة

مقبرة أمنحتب

مقبرة با-دي-إشتار وتماثيل الإله خونسو-إفانكاه

معبد وتماثيل الإله بيس

قصر علام

كنيسة القوصية في حيز
أ.د. ثروت حلمي
أستاذ الاستكشاف الجيوفيزيائي - قسم الجيولوجيا كلية العلوم - جامعة الأزهر